کد مطلب:309765 شنبه 1 فروردين 1394 آمار بازدید:288

القسمت 02


ملأ رغاء الجمال فضاء مكة، فقد آبت القوافل التی انطلقت إلی الیمن، فی رحلة الشتاء؛ كان الجو بارداً و السماء تزدحم بغیوم رمادیة؛ و صخور الجبال الجرداء بدت و كأنها تتضرع إلی السحب تنشدها قطرات المطر.

و شیئاً فشیئاً خفتت الأصوات و آبت الطیور إلی أو كارها ساعة المغیب، و بدا البیت خالیاً موحشاً كصحراء مقفرة؛ كانت «فاطمة» مستغرقة فی تفكیر عمیق تطوف فی خیالها سورة «مریم» تلك الفتاة البتول التی انقطعت عن العالم فی صومعتها تعبد اللَّه تتبتل الیه وحیدة.. تستكشف آفاق السماء متخففة من أثقال الأرض.

جلست فاطمة تترقب أوبة أبیها، و بدا المنزل خالیاً من كل شی ء «لا زینب، و لا رقیة» و لا «ام كلثوم» ذهبن ثلاثتهن إلی بیوت أزواجهنّ؛ زینب استقرت فی بیت «أبی العاص بن الربیع» و اُم


«جمیل» اختطفت «رقیة» و «اُم كلثوم» لولدیها «عتبة» و «عتیبة»؛ و كل هذا یهون أمام مصیبة كادت أن تعصف بكلّ شی ء.. لقد رحلت أمّها.. «خدیجة» ذلك النبع المتدفق حناناً و حبّاً و دفئاً..

- لكِ اللَّه یا أمّی.. ما كادت أعوام الحصار تمضی بأیّامها الصعبة ولیالیها المضنیة حتی ودّعتی الدنیا لیبقی والدی وحیداً و هو أشدّ الناس حاجة إلی من یؤازره ویقف إلی جانبه.. ولكن یا أمّاه سأجهد نفسی لأملأ الفراغ الذی جثم علی البیت بعد رحیلك. سأكون له بنتاً و اُمّاً.. سأمسح دموعه بیدین تشبهان یدیك و سأبتسم له كما كنتِ تضیئین قلبه بابتسامتك.

ولكن یا أمّاه أنا ما أزال صغیرة لیتك صبرت قلیلاً، أبی كان قویّاً بك.. و كان یتحدی العاصفة بعزم «أبی طالب» شیخ البطحاء تكفله صغیراً وحماه كبیراً غیر انكما تركتماه وحیداً و استرحتما من هم الدنیا و غمّها و حقّ لكما أن تستریحا و قد عصفت بكما النوائب من كل مكان و سدّد لكما الدهر سهاماً مسمومة و حراباً. أجل یا أمی... لقد اظلمت الدنیا نشر المساء ستائره السوداء و هذا عامنا عام حزن.. ها أنا انتظر أوبة أبی.. أبی الذی یرید تبدید الظلام بنور الإسلام.. ولكن مكّة ترفض ذلك.. تتمنع و فیها من یحبّ حیاة الظلمات كما الخفافیش لاتهوی النور و لا تحبّ النهار.


سمعت «فاطمة» خطیً هادئة كنبضات قلبٍ یخفق أملاً، خطیً تعرفها فاطمة.. لهذا هبّت كفراشة تهوی إلی النور بقوامها النحیل بعینیها الواسعتین سعة الصحراء وبابتسامتها المشرقة بالأمل...

ولكن لم تسمرت «فاطمة» فی مكانها كأن خنجراً یطعن قلبها طعنة نجلاء..

عاد أبوها حزیناً بدا وجهه كسماء مدلهمة بسحب من رماد، كان ینفض عن رأسه و وجهه التراب و الأوساخ و تمتم الرسول بحسرة:

- و اللَّه ما نالت قریش منی شیئاً أكرهه إلّا بعد موت أبی طالب.

اهتزّت «فاطمة» لهول ما تری وبدت كسعفة أغضبتها الریح... یا لصبر الأنبیاء... شعرت بالانكسار. كیف سوّلت لذلك السفیه نفسه أن یمسّ بالسوء وجهاً یسطع بالنور...

بكت بانكسار.. وسالت دموعها حزینة حزن سماء تمطر علی هون.

مسح الأب دموع ابنته ثم قال وعیناه تشعان أملاً:

- لا تبكی یا فاطمة.. ان اللَّه ناصر أباك علی أعداء رسالته.

انحسرت الغیوم عن السماء فبدت صافیة مشرقة وعادت الابتسامة إلی الوجه الملائكی... ولكن عتباً كان یموج فی قلبها:

- تری أین كان فتی شیخ البطحاء... و هو لایكاد یفارق أباها...


یتبعه كظلّه.. یدفع عنه أذی السفهاء من قریش و نسیت فاطمة كلّ شی ء بعد أن ناداها أبوها فخفّت الیه كحمامة بریّة تهفو إلی عشّها.

ابتسمت فاطمة... فانعكست ابتسامتها فی وجه أبیها.. ابتسم محمّد.. أشرقت علی قلبه شمس تغمره بالدف ء و الأمل والحیاة.. یالهذه الحوریة الصغیرة ذكری خدیجة.. وباقة ورد من جنّات السماء.

جلست فاطمة بین یدی والدها النبیّ زهرة تتفتح.. تتشرب كلمات اللَّه. و تضی ء الكلمات قلبها كنجوم فی سماء صافیة.

و تمر ثلاثة أعوام. و نمت فاطمة.. و تفتحت للحیاة كما تتفتح الأزهار فی الربیع.